فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (9)}.
أعقب تثبيت الرسول على التبليغ والتنويه بشأن القرآن بالنسبة إلى من أنزله ومن أنزل عليه بذكر قصة موسى عليه السلام ليتأسّى به في الصبر على تحمل أعباء الرسالة ومقاساة المصاعب، وتسليةً له بأن الذين كذبوه سيكون جزاؤهم جزاء مَن سلَفَهم من المكذبين، ولذلك جاء في عقب قصة موسى قوله تعالى: {وقد آتيناك من لدنا ذكرًا من أعرض عنه فإنه يحمل يوم القيامة وزرًا خالدين فيه} [طه: 99 101].
وجاء بعد ذكر قصة آدم وأنه لم يكن له عزم {فاصبر على ما يقولون} [طه: 130] الآيات.
فجملة {وهل أتَاكَ حَدِيثُ موسى} عطف على جملة {ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى} [طه: 2].
الغرض هو مناسبة العطف كما تقدم قريبًا.
وهذه القصة تقدّم بعضها في سورة الأعراف وسورة يونس.
والاستفهام مستعمل في التشويق إلى الخبر مجازًا وليس مستعملًا في حقيقته سواء كانت هذه القصة قد قُصت على النبي صلى الله عليه وسلم من قبل أم كان هذا أولَ قصصها عليه.
وفي قوله: {إذ رأى نارًا} زيادة في التشويق كما يأتي قريبًا.
وأوثر حرف {هل} في هذا المقام لما فيه من معنى التحقيق لأن {هل} في الاستفهام مثل {قَد} في الإخبار.
والحديث: الخبر، وهو اسم للكلام الذي يحكى به أمر حدث في الخارج، ويجمع على أحاديث على غير قياس.
قال الفراء: واحِد الأحاديث أُحْدُوثة ثم جعلوه جمعًا للحديث اهـ.
يعني استغنوا به عن صيغة فُعلاء.
و{إذْ} ظرف للحديث.
وقد تقدّم نظائره، وخص هذا الظرف بالذكر لأنه يزيد تشويقًا إلى استعلام كنه الخبر، لأن رؤية النار تحتمل أحوالًا كثيرة.
ورؤية النار تدلّ على أن ذلك كان بليل، وأنه كان بحاجة إلى النار؛ ولذلك فرع عليه: {فَقَالَ لأَهْله امْكُثُوا}... إلخ.
والأهل: الزوج والأولاد.
وكانوا معه بقرينة الجمع في قوله: {امكثوا} وفي سفر الخروج من التّوراة فأخذ موسى امرأته وبنيه وأركبهم على الحمير ورجع إلى أرض مصر.
وقرأ الجمهور بكسر هاء ضمير أهلِه على الأصل.
وقرأه حمزة وخلف: بضم الهاء، تبعًا لضمة همزة الوصل في امكثوا.
والإيناس: الإبصار البيّن الذي لا شبهة فيه.
وتأكيد الخبر بإن لقصد الاهتمام به بشارة لأهله إذ كانوا في الظلمة.
والقبَس: ما يؤخذ اشتعاله من اشتعال شيء ويقبس، كالجَمرة من مجموع الجمر والفتيلة ونحو ذلك.
وهذا يقتضي أنه كان في ظلمة ولم يجد ما يقتدح به.
وقيل: اقتدح زَنده فَصَلَد، أي لم يقدح.
ومعنى {أو أجدُ على النار هدى} أو ألقَى عارفًا بالطريق قاصدًا السير فيما أسير فيه فيهديني إلى السبيل.
قيل: كان موسى قد خفي عليه الطريق من شدّة الظلمة وكان يحب أن يسير ليلًا.
و{أوْ} هنا للتخيير، لأنّ إتيانه بقبس أمر محقق، فهو إما أن يأخذ القبس لا غير، وإما أن يزيد فيجد صاحب النار قاصدًا الطريق مثله فيصحبه.
وحرف {على} في قوله: {أو أجِدُ على النَّارِ هُدىً} مستعمل في الاستعلاء المجازي، أي شدّة القرب من النار قربًا أشبه الاستعلاء، وذلك أنّ مُشعِل النار يستدني منها للاستنارة بضوئها أو للاصطلاء بها.
قال الأعشى:
وباتَ على النار النّدى والمحلّقُ

وأراد بالهدى صاحب الهدى.
وقد أجرى الله على لسان موسى معنى هذه الكلمة إلهامًا إياه أنه سيجد عند تلك النار هُدى عظيمًا، ويبلّغ قومه منه ما فيه نفعهم.
وإظهار النّار لموسى رمْز رباني لطيف؛ إذ جعل اجتلابه لتلقي الوحي باستدعاء بنور في ظلمة رمزًا على أنه سيتلقى ما به إنارة ناس بدين صحيح بعد ظلمة الضلال وسوء الاعتقاد.
{فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى (11)}.
بني فعل النداء للمجهول زيادة في التشويق إلى استطلاع القصة، فإبهام المنادي يشوّق سامع الآية إلى معرفته فإذا فاجأه {إنِّي أنا ربُّكَ} علم أنّ المنادي هو الله تعالى فتمكن في النفس كمال التمكن.
ولأنه أدخل في تصوير تلك الحالة بأنّ موسى ناداه مناد غير معلوم له، فحكي نداؤه بالفعل المبني للمجهول.
وجملة {إنِّي أنا ربُّكَ} بيان لجملة {نُودِيَ}.
وبهذا النداء علم موسى أنّ الكلام موجّه إليه من قِبَل الله تعالى لأنه كلام غير معتاد والله تعالى لا يغيّر العوائد التي قررها في الأكوان إلاّ لإرادة الإعلام بأنّ له عناية خاصة بالمغيّر، فالله تعالى خلق أصواتًا خَلقًا غير معتاد غير صادرة عن شخص مشاهد، ولا موجهة له بواسطة ملَك يتولى هو تبليغ الكلام لأنّ قوله: {إنِّي أنا ربُّكَ} ظاهر في أنه لم يبلّغ إليه ذلك بواسطة الملائكة، فلذلك قال الله تعالى: {وكلم الله موسى تكليمًا} [النساء: 164]، إذ علم موسى أن تلك الأصوات دالة على مراد الله تعالى.
والمرادُ التي تدلّ عليه تلك الأصوات الخارقة للعادة هو ما نسميه بالكلام النفسي.
وليس الكلام النفسي هو الذي سمعه موسى لأن الكلام النفسي صفة قائمة بذات الله تعالى منزّه عن الحروف والأصوات والتعلّق بالأسماع.
والإخبار عن ضمير المتكلم بأنه ربّ المخاطب لتسكين روعة نفسه من خطاب لا يرى مخاطِبه فإن شأن الرب الرفق بالمربوب.
وتأكيد الخبر بحرف {إنّ} لتحقيقه لأجل غرابته دفعًا لتطرق الشك عن موسى في مصدر هذا الكلام.
وقرأ أبو عمرو وابن كثير {أني} بفتح الهمزة على حذف باء الجر.
والتقدير: نودي بأني أنا ربّك.
والتأكيد حاصل على كلتا القراءتين.
وتفريع الأمر بخلع النعلين على الإعلام بأنه ربّه إشارة إلى أن ذلك المكان قد حلّه التقديس بإيجاد كلام من عند الله فيه.
والخلع: فصل شيء عن شيء كان متّصلًا به.
والنعلان: جلدان غليظان يجعلان تحت الرجل ويشدّان برباط من جلد لوقاية الرِّجل ألم المشي على التّراب والحصى، وكانت النعل تجعل على مثال الرجل.
وإنما أمره الله بخلع نعليه تعظيمًا منه لذلك المكان الذي سيسمع فيه الكلام الإلهي.
وروى الترمذي عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«كانت نعلاه من جلد حمارٍ ميّت» أقول: وفيه أيضًا زيادة خشوع.
وقد اقتضى كلا المعنيين قوله تعالى: {إنَّكَ بالوادِ المُقَدَّسِ} فحرف التوكيد مفيد هنا التعليل كما هو شأنه في كل مقام لا يقتضي التأكيد.
وهذه خصوصية من جهات فلا يؤخذ منها حكمٌ يقتضي نزع النعل عند الصلاة.
والواد: المَفْرج بين الجبال والتلاللِ.
وأصله بياء في آخره.
وكثر تخفيفه بحذف الياء كما في هذه الآية فإذا ثُني لزمتْه الياء يقال: وادِيان ولا يقال وادَان.
وكذلك إذا أضيف يقال: بوادِيك ولا يقال بوادِك.
والمقدّس: المطهّر المنزّه.
وتقدم في قوله تعالى: {ونُقدس لك} في أول البقرة (30).
وتقديس الأمكنة يكون بما يحلّ فيها من الأمور المعظمة وهو هنا حلول الكلام الموجه من قِبَل الله تعالى.
واختلف المفسرون في معنى {طُوَىً} وهو بضم الطاء وبكسرها، ولم يقرأ في المشهور إلاّ بضم الطاء، فقيل: اسم لذلك المكان، وقيل: هو اسم مصدر مثل هُدى، وصف بالمصدر بمعنى اسم المفعول، أي طواه موسى بالسير في تلك الليلة، كأنه قيل له: إنك بالواد المقدّس الذي طويتَه سَيرًا، فيكون المعنى تعيين أنه هو ذلك الواد.
وأحسن منه على هذا الوجه أن يقال هو أمر لموسى بأن يطوي الوادي ويصعَدَ إلى أعلاه لتلقي الوحي.
وقد قيل: إنّ موسى صَعِدَ أعلى الوادي.
وقيل: هو بمعنى المقدس تقديسين، لأن الطي هو جعل الثوب على شقين، ويجيء على هذا الوجه أن تجعل التثنية كناية عن التكرير والتضعيف مثل: {ثم ارجع البصر كرتين} [الملك: 4].
فالمعنى: المقدّس تقديسًا شديدًا.
فاسم المصدر مفعول مطلق مبيّن للعدد، أي المقدّس تقديسًا مضاعفًا.
والظاهر عندي: أنّ {طُوىً} اسم لصنف من الأودية يكون ضيقًا بمنزلة الثوب المطوي أو غائرًا كالبئر المطوية، والبئر تسمى طَوِيًّا.
وسمي وادٍ بظاهر مكة ذا طوى بتثليث الطاء، وهو مكان يسن للحاج أو المعتمر القادم إلى مكة أن يغتسل عنده.
وقد اختلف في {طوى} هل ينصرف أو يمنع من الصرف بناء على أنه اسم أعجمي أو لأنه معدول عن طاو، مثل عُمر عن عامر.
وقرأ الجمهور: {طوى} بلا تنوين على منعه من الصرف.
وقرأه ابن عامر، وعاصم، وحمزة، والكسائي، وخلف منوّنًا، لأنه اسم واد مذكّر.
وقوله: {وأنَا اخْتَرْتُكَ} أخبر عن اختيار الله تعالى موسى بطريق المسند الفعلي المفيد تقوية الحكم، لأنّ المقام ليس مقام إفادة التخصيص، أي الحصر نحو: أنا سعيت في حاجتك، وهو يعطي الجزيل.
وموجِب التقوّي هو غرابة الخبر ومفاجأته به دفعًا لتطرّق الشك في نفسه.
والاختيار: تكلف طلب ما هو خير.
واستعملت صيغة التكلف في معنى إجادة طلب الخير.
وفُرع على الإخبار باختياره أن أُمِر بالاستماع للوحي لأنه أثر الاختيار إذ لا معنى للاختيار إلاّ اختياره لتلقي ما سيوحي الله.
والمراد: ما يوحى إليه حينئذ من الكلام، وأما ما يوحى إليه في مستقبل الأيام فكونه مأمورًا باستماعه معلوم بالأحْرى.
وقرأ حمزة وحده {وأنّا اخترناك} بضميري التعظيم.
واللام في {لِمَا يُوحَى} للتقوية في تعدية فعل {استمع} إلى مفعوله، فيجوز أن تتعلق باخْتَرْتُكَ، أي اخترتك للوحي فاستمع، معترضًا بين الفعل والمتعلّق به.
ويجوز أن يضمّن استمع معنى أصْغغِ.
{إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14)}.
هذا ما يوحى المأمور باستماعه، فالجملة بدل من {ما يوحى} [طه: 13] بدلًا مطلقًا.
ووقع الإخبار عن ضمير المتكلم باسمه العلَم الدالّ على الذات الواجب الوجود المستحق لجميع المحامد.
وذلك أول ما يجب علمه من شؤون الإلهية، وهو أن يعلم الاسم الذي جعله الله علَمًا عليه لأن ذلك هو الأصل لجميع ما سيُخاطب به من الأحكام المبلغة عن ربّهم.
وفي هذا إشارة إلى أنّ أول ما يتعارف به المتلاقون أن يعرفوا أسماءهم، فأشار الله إلى أنه عالم باسم كليمه وعلّم كليمه اسمه، وهو الله.
وهذا الاسم هو علم الربّ في اللغة العربية.
واسمه تعالى في اللغة العبرانية يَهْوهْ أو أَهْيَهْ المذكور في الإصحاح الثالث من سفر الخروج في التوراة، وفي الإصحاح السادس.
وقد ذكر اسم الله في مواضع من التوراة مثل الإصحاح الحادي والثلاثين من سفر الخروج في الفقرة الثامنة عشرة، والإصحاح الثاني والثلاثين في الفقرة السادسة عشرة.
ولعله من تعبير المترجمين وأكثر تعبير التوراة إنما هو الرب أو الإله.
ولفظ أهْيَهْ أو يَهْوَهْ قريب الحروف من كلمة إله في العربية.
ويقال: إن اسم الجلالة في العبرانية لاَهُمْ.
ولعل الميم في آخره هي أصل التنوين في إله.
وتأكيد الجملة بحرف التأكيد لدفع الشك عن موسى؛ نزل منزلة الشاكّ لأن غرابة الخبر تعرّض السامع للشك فيه.
وتوسيط ضمير الفصل بقوله: {إنَّني أنا الله} لزيادة تقوية الخبر، وليس بمفيد للقصر، إذ لا مقتضى له هنا لأن المقصود الإخبار بأنّ المتكلّم هو المسمى الله، فالحمل حمل مواطاة لا حملُ اشتقاق.
وهو كقوله تعالى: {لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم} [المائدة: 72].
وجملة {لا إله إلاَّ أنا} خبر ثان عن اسم إنّ.
والمقصود منه حصول العلم لموسى بوحدانية الله تعالى.
ثمّ فرع على ذلك الأمر بعبادته.
والعبادة تجمع معنى العمل الدالّ على التعظيم من قول وفعل وإخلاصصٍ بالقلب.
ووجه التفريع أن انفراده تعالى بالإلهية يقتضي استحقاقه أن يُعبد.
وخصّ من العبادات بالذكر إقامة الصلاة لأنّ الصلاة تجمع أحوال العبادة.
وإقامة الصلاة: إدامتها، أي عدم الغفلة عنها.
والذكر يجوز أن يكون بمعنى التذكر بالعقل، ويجوز أن يكون الذكر باللّسان.
واللاّم في {لِذِكْرِي} للتّعليل، أي أقم الصلاة لأجل أن تذْكُرني، لأنّ الصلاة تذكّر العبد بخالقه.
إذ يستشعر أنه واقف بين يدي الله لمناجاته.
ففي هذا الكلام إيماء إلى حكمة مشروعية الصلاة وبضميمته إلى قوله تعالى: {إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر} [العنكبوت: 45] يظهر أن التقوى من حكمة مشروعية الصلاة لأنّ المكلّف إذا ذكر أمر الله ونهيه فعل ما أمره واجتنب ما نهاه عنه والله عرّف موسى حكمَة الصلاة مُجملةً وعرّفها محمدًا صلى الله عليه وسلم مفصّلة.
ويجوز أن يكون اللام أيضًا للتوقيت، أي أقم الصلاة عند الوقت الذي جعلتُه لذِكري.
ويجوز أن يكون الذكر الذكرَ اللساني لأن ذكر اللسان يحرّك ذكر القلب ويشتمل على الثناء على الله والاعتراففِ بما له من الحق، أي الذي عيّنته لك.
ففي الكلام إيماء إلى ما في أوقات الصلاة من الحكمة، وفي الكلام حذف يعلم من السياق. اهـ.